زمن السقوط
ادار موجة مذياعه من اقصى اليسار الى اقصى اليمين . دورها بين اصابعه عدة مرات . بحث في كل الاصوات على موجات يعرفها من ارقامها . لكن الموجات اختفت . واختفت معها برامجه المعهودة (مساء الخير بغداد ) و (اوراق الليل )... وعدة برامج اخرى ... التهم كل اخبار المذياع وكلها تتحدث عن دخول ارتال النمل واسراب الجراد وقوات احتلال الى البلاد مع عدة تصريحات عسكرية ...دخلوا .... وصلوا .... نحن الان على مشارف ... اصوات مراسلون .. .احتلال سقوط مدن تدمير بنى تحتية . قرارات امم متحدة .. ذرائع انسانية لتبرير عمل غير انساني . وجل يزداد مع تطارد عقارب الساعة . في يوم مأساوي . اراد ان يخرج الى الشارع لعله يكذب ما يسمعه . رغم دوي الطائرات المارقة في كل الاتجاهات وزمجرة المسرفات وأصوات العيارات النارية . انه الواقع الاسود . صدق ماسمعه في المذياع فكان وقعه اشد على نفسية الاستاذ (عاصم) معلم الوطنية الذي يتصف بالحكمة والهدوء والحب للوطن . مع قراءات مسبقة لكثير من الاحداث . انه يدرس الوطنية لاكثر من عشرين سنة . جبل حب الوطن . بل عجنه حتى انضج رغيف محبته . مرعليه اكثر من عشرون جيلا علمهم ميراث الامة .. ردد حب الوطن لالاف الاذان المصغية له في المدرسة لسنوات . يعرفه اكثر اهل المدينة حتى بدأوا يسمونه (عاصم الوطن )عشق مفردات المواطنة . كان خروجه الى الشارع في هذا الوقت احساسا منه ان الناس بحاجة الى تذكير بالمواطنة وانه يجب ان يذكر الاذان بمفردات الحب وشيئا من الحكمة . اطبق باب بيته .خرج الى شوارع بغداد ليرى الناس في هرج ومرج . تذكر كل دروسه لاكثر من عقدين من الزمان . احس انه يعرف كل الناس . لكنه تفاجأ ان وجوههم تغيرت ملامحها وان اذانهم كبرت لذلك لم يعرفه احد . سار في تعثرحتى ساقته اقدامه في شوارع اسفلتية يملئها حطام الدبابات والعربات العسكرية وتلتهم اطرافها النيران . حواري يغطيها الدخان . ملاعب صبا خاوية . مواكير طيور مهجورة . وكأن كل شئ خلا من اهله قذفته خطوط الاسفلت حتى وقف امام بوابة المتحف الوطني لعله يجد بقايا وطن . بقي
ساكنا وقد تسمر نظره في البوابة العظيمة انها بوابة عشتار . بوابة عشق ابدي .
كأنها المدخل الى الف ليلة وليله . بل الى بغداد القديمة في كتب( الكصاخون)عاوده حبه القديم . اراد ان يلقي محاضرته .. ظن ان كل الاذان تصغي اليه . اخرج منديله ليمسح دمعة انحدرت على خده لتسير نحو شاربيه . مسح زجاج نظارته السميك رتب (سدارته) ثم قال يخاطب اطفالا جلسوا في ذاكرته ..
ـ ياابنائي ....... الوطن نبع الحياة الدافق..
ـ ياابنائي ....... القوانين اسيجة لحفظ النظام والحقوق .
ـ ياابنائي...... الاخلاق معيارالامم والشعوب ومقياس حضارتها وتقدمها .
ثم انهالت دموعه فبدأ يمسح بمنديله . لكنه استمر بالكلام ......
ـ ياابنائي .....الخير سجية مزروعة في النفس البشرية والشر نزعة الشيطان في الجسد...
ـ ياابنائي.....ان من بنى هذه الحضارة هم تاعظماء وكل العظماء كانوا صغارا مثلكم .لكنه لم يستطع مواصلة كلامه لان احد الاشخاص اصطدم به وهو يحمل صخرة سوداء خرج بها من بوابة عشتار . لبس نظارته ورتب حاله ليتفاجأ ان الصخرة كانت (مسلة حمورابي ) . اول وثيقة قانون وضعية على الارض . لقد اذهله ما رأى حتى انه لم يتمالك نفسه فأمسك بطرف المسلة وسحبها اليه ألا ان ذلك الشخص اصاح به .
ــ عمي انها لي .. انا الذي اخرجها من المتحف . اذهب واجلب ما تريد .
الا ان الاستاذ عاصم تمسك بها اكثر عندما احس من لكنة ذلك الشخص انه لايعرف قيمتها التاريخية وانه من الاكيد لا يعرف ماهية العقوبات المنقوشة عليها في مثل حالته .
ـ ـ ياالاهي انه يحمل عقوبته بين يديه ..يابني ان هذه مسلة حمورابي ... وانها... وانها .... الا ان ذلك الشخص اخذ يصارعه عليها ولانه كان الاقوى فقد فاز بغنيمته وولى هاربا حاملها . غير انه تعثر بطرفها لتصطدم بالارض وتتأرجح من الاعلى فتضربه على رأسه ويقع مطاولا الصخرة على الارض . ركض الاستاذ عاصم الى ذلك الشخص فوجده قد فقد وعيه . احتضن الاستاذ صخرته وحملها بهدوء متجها الى باب المتحف . دخل بوابة عشتار حاملا دستوره القديم على صخرة سوداء . تذكر دخوله الى الصف وهو يحمل طتيبات وكراريس تعلم حب الوطن والمواطنة الحقة وبعض الحكمة والادب . بعد ان اجتاز البوابة . عند رأس الثور المجنح تراءى له دخوله الصف وبدأ يلقي محاضرته في التاريخ وحب الارض فأتكأ على المسلة وقال...
ـ يا ابنائي ..... الحضارات نتاج الشعوب والتاريخ سجلها والارض امن جميعا .
ـ
ـ يا ابنائي .....ان اجدادكم اول من صاغ القانون لاستمرارية الحياة .
ـ يا ابنائي ..... ان الحضارات هي نتاج المبدعين . والابداع ميزة العظماء .
ـ يا ابنائي ..... ان هذه الحضارة هي كلام آبائكم وان الصامتون يأدون بنات افكارهم ثم اردف وقد امتلأت مقلتيه دمعا بدأ يسيل بأتجاه شاربيه عبر تجاعيد حزن قديم .
ـ ياابنائي .....اننا امة تحفل بتاريخها واننا نحن الذين كللنا صفحات التاريخ غارا ..... واستمر ياابنائي ... وياابنائي ....... لكنه اكتشف ان الزمان زمن السقوط . فانهالت دموعه بغزارة .. وما اغزر دموع الرجال اذا بكت وطن .. اننا نبكي على آبائنا وقد عاصرناهم ثلاثين عاما . فكيف بوطن عاصرناه ثلاث الاف عام .......
احمد الرواز الكبيسي
الشرقاط / السويدان
21 / 5 / 2005
